لا يكاد يمر اسم “تشارلي تشابلن” على مسمع أحد إلا ويترائى له ذلك الكاريكاتير بالأبيض والأسود وذلك الشارب الصغير، الحزين الذي أسعد العالم بدون أن ينطق بأي حرف، رسائل ساخرة مُخبأة خلف مجموعة من الحركات، أصبح رمزاً و أيقونة متميزة متفرداً بأسلوبه، أسطورة تشارلي البائس ببعض من محطات حياته.
تشارلي شابلن.. حياته ونشأته
ولد تشارلي في 16 أبريل عام 1889 بمدينة لندن ونشأ في أسرة يغمرها الفقر، وعاش حياة قاسية بين أم تكافح في العمل من أجل قوت يومها و أب سكّير، كانت والدته تعاني من اضطرابات نفسية بسبب مرض الزهري، فبدأت تظهر عليها أعراض الجنون، لذلك أُدخلت المصحة النفسية عدة مرات وعلى أثره تم نقل تشارلي شابلن إلى مؤسسة الرعاية الصحية قبل بلوغه التسع سنوات، كان والداه يعملان في المسرح وكان والده” تشارلز شابلن” الأب مغنياً شعبياً، ولكنه لم يكن يقدم أي دعم مالي لعائلته.
تقاسّم تشارلي حياة الفقر والتعاسة مع أخيه غير الشقيق “سيدني جون” وتم إرسالهما إلى مدرسة خاصة بالفقراء، بسبب تهتك العلاقات الأسرية، خلال الشهرين اللذين قضته والدتهما “هانا تشابلن” في المصحة النفسية، تم إرسالهما ليعيشا مع والدهما الذي كان مدمناً على الكحول فعاملهما معاملة قاسية جداً، مما دفع الجمعية الوطنية لمنع القسوة ضد الأطفال للزيارة والتحقيق، وتوفي “تشابلن الأب” بعد عامين، بعمر 38 عاماً، بسبب تليف الكبد، عانت والدته بعدها وتحسنت صحتها ولكنها عادت للمرض من جديد وظلت هكذا تحت الرعاية في المصحة حتى توفيت عام 1928.
هانا ملهمة تشارلي شابلن
في عام 1894 عندما كان “تشابلن” بعمر الخمس سنوات، ذهب بصحبة والدته إلى مسرح “كانتين” في مدينة ألدرشوت، وكانت والدته تظهر على خشبة المسرح باسمها الفني “ليلي هارلي”، وكان “تشارلي شابلن” يقف خلف الكواليس يراقبها وهي تغني، وفجأة أصيبت بحبالها الصوتية وتلعثمت ثم بدأ الجمهور يطلق صيحات الاستهجان، وبدأوا بقذفها، هرع “تشارلي شابلن” إلى خشبة المسرح وأنهى الأغنية بدل والدته، وقد أبهر الجميع وصفق له الجمهور وقذفوا إليه القطع النقدية، وكان هذا حدثاً فريدا، وبحلول الوقت عندما كان في التاسعة من عمره بدأ “تشارلي شابلن” وبالتشجيع من والدته في تنمية أدائه، في وقت لاحق كتب: “أمي ملأتني بالشعور بأن لي شيئاً من الموهبة”.
بداية الطريق الفني لـ تشارلي شابلن
ما بين عامي 1899 و1900 انضم تشارلي شابلن لـ فرقة “فتيان لانكشاير الثمانية”، وعمل على تقديم المشاهد الكوميدية وعند بلوغه سن الثالثة عشر قرر تشابلن ترك التعليم وبدأ الخوض بعدة أعمال بنفس الوقت عمل على تنمية موهبته كممثل، وبعد ثلاث سنوات انضم لوكالة بلاكمور المسرحية وبدأ العرض الفعلي له، أخذ الاستحسان وبدأ بتقديم الأدوار وأولها في مسرحية “شارلوك هولمز” على مر سنتين ونصف كانت بداية تعرف الجمهور وحبه له.
حاول تشارلي شابلن إثبات نفسه في التمثيل المنفرد ولكنه باء بالفشل لذلك عثر على عمل جديد ضمن فرقة وبعد سنتين أصبح نجم فرقة رئيسي، جال مع هذه الفرقة في شمال أمريكا لتقديم العروض استمرت لمدة إحدى وعشرين شهراً، بعدها بدأت العروض السينمائية تتهافت إلى تشارلي خاصة بعد دور “السكيّر” الذي قدمه، وافق على العمل مع شركة كيستون الأمريكية وانتقل بعدها إلى لوس أنجلوس وكان بعمر ال24، وكان كل شيء جديداً الكاميرا والتصوير وقال حينها” لم يكن لدي أي فكرة حول الشخصية التي سألعب دورها، ولكن في اللحظة التي ارتديت فيها الملابس ووضعت المكياج أحسست بالشخصية، وبدأت أتعرف عليها وصعدت إلى المسرح بخطوات متعجرفة وعندها ولدت شخصية المتشرد الصعلوك “ذي الأخلاق الحميدة والشهامة، وبعدها صدر فيلم “عالق في المطر”.
تشارلي شابلن..المشوار نحو النجومية
دور الصعلوك الذي قدمه تشارلي شابلن هي الشخصية التي طورت موهبته وأصبحت إحدى الشخصيات الأسطورية في هوليوود وجميع أنحاء العالم، وأصبح بعدها تشارلي شابلن ظاهرة فنية ثقافية وأصبح سيطه على لسان الصغير قبل الكبير، قدم تشارلي خلال أفلامه قضايا اجتماعية هامة، ولكن بطريقة ناقدة وساخرة كوميدية من بينها ” الملاكمة ، المتشرد ، حياة كلب، امرأة باريس، الصبي، حمى الذهب ” لاقى آخرها انتشاراً واسعاً بسبب استخدام تقنيات جديدة في السينما رغم عدم وجود صوت، وفيلم “السيرك ” 1928 الذي حصل من خلاله على جائزة الأوسكار الفخرية.
يعد فيلم الديكتاتور الذي قدمه عام 1940 الذي جسّد فيه شخصية “أدولف هتلر” من أشهر أفلامه حيث جسده بطريقة مبتكرة وجديدة ورسم فيها مساراً جديداً لهذه الشخصية وسلط الضوء على التسلط و حلم السيطرة على العالم وقم تشارلي في هذا الفيلم إدانة واضحة لهتلر والفاشية والنازية، ويعد هذا الفيلم أكثر أعمال تشارلي شابلن على مستوى رد فعل النقاد وتحقيقه أفضل نجاح تاريخي ورشح لخمس جوائز أوسكار عن أفضل ممثل وأفضل سيناريو وأفضل مساعد وأفضل موسيقى.
وكان هذا الفيلم السبب في إبعاده عن أميركا لأن تشارلي شابلن بنى فيه لوحة هزلية ومرعبة للنازية.
وجد بعض المؤرخين بعض نقاط الشبه التي جمعت بين تشارلي شابلن وهتلر، فهما من مواليد نفس السنة، ولكن بفارق قليل وكلاهما كان فقيرا ثم أصبحا من الأغنياء، أما الشارب الذي وضعه تشارلي قبل أن يتولى هتلر قيادة بلاده، ربما كان هذا هو السبب الذي جعل تشابلن يتقن هذا الدور التاريخي.
عانى بعدها تشارلي شابلن مع شركات الإنتاج وأثرت حياته الخاصة كثيراً على حياته المهنية مما جعله يفكر في إنشاء شركته الخاصة بمساعدة أخيه ليستلم الأمور الإدارية، وأصدر عدة أفلام وكان أخر ما تم تصويره في أمريكا “أضواء المدينة” الذي أمضى ثلاث سنوات بالتخطيط والعمل لإنتاج هذا الفيلم بأسلوب جديد، ولكن عندما طلبت منه أمريكا المغادرة قرر من تلقاء نفسه قطع العلاقات حيث قال”لم يكن يهمني أن أعود أو لآ أعود إلى ذلك البلد البائس ولقد وددت أن أقول لهم أنه كلما بكرت في التخلص من ذلك الجو البشع بالكراهية يكون أفضل وإني لم أعد أتحمل إهانات أمريكا وأخلاقها المتأججة إن كل ذلك يرهقني” غادر بعدها دون عودة.
تشارلي شابلن.. الشيوعية والاتهامات الزائفة
كان تشارلي شابلن بعيداً عن السياسة لكنه كان يبعث رسائلاً خفيةً في أفلامه الصامتة، ففي الحرب العالمية الثانية قال “إن الإنتصار في الحرب مرهون بالتعاون الكامل مع روسيا، وإيقاف الحرب ضد الشيوعيين” هذا ما دعه عرضة للهجوم من قبل الأمريكيين توجيه إتهام مباشر له من قبل المخابرات الأمريكية أنه شيوعي و قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحقيق معه عام 1948 وعندها أنكر وجود أي علاقة مع الحزب الشيوعي الأمريكي.
تشارلي شابلن متعدد الزوجات
بالرغم من الانهماك في السينما والعمل، إلا أن تشارلي شابلن لم يهمل حياته الخاصة فقد عُرف عنه لقب “الرجل المزواج” تزوج أربع مرات خلال حياته وأولها كانت فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، مما أدى إلى قيام المجتمع الأمريكي ضده ولكنه انتهى بالإنفصال وعلق تشارلي قائلاً ” كان ما يغيظني حقاً أشد الغيظ هو موافقتها المستمرة على كلامي، ثم القيام بالعكس تماماً!”.
وبعد تجربته الأولى الفاشلة قرر الزواج من فتاة تعرف عليها أثناء تصوير فيلم “هجوم الذهب” دام هذا الزواج عامين أنجبت له طفلين ولم يكتب لهذا الزواج أن يُكلل بالنجاح، تسبب لتشارلي بتعب نفسي لدرجة أن تشارلي شابلن كان يمضي ساعات طويلة في الأستوديو لتجنب رؤية زوجته وأدى ذلك إلى ابتعاد تشارلي عن الجمهور وعن العمل وحاول الثنائي التوصل لحل ودي بالطلاق والإنفصال، وسبّب هذا الإنفصال وعاش تشارلي شابلن أصعب أيام حياته وهو يرى الصحافة تتناول حياته وحياة طفليه الخاصة وتلقى هجوماً من قبل الصحافة، بعد تسرب إحدى الوثائق وفيها شكوى ضده بأنه لا يتكفل بإطعام أبنائه مما أدى لتدخل الجمعيات الخيرية وإنشاء حملة تبرعات تحت عنوان “لإطعام أطفال تشابلن” أدت هذه الحملة إلى إنقاص شعبيته لدى الناس، وبعدها حكمت المحكمة لزوجته بدفع 800.000 دولار كأكبر نفقة سجلت مما جعل تشارلي يصاب بانهيار عصبي لدرجة تحول شعره من اللون الأسود للأبيض فجأة.
أما زواجه الثالث فكان من نجمة سينمائية نشأت بينهما علاقة حب قوية، ولكن لم يكتب لهما الإستمرار وبدأ الملل يتسلل لحياتهما وبدأت الفجوة تتسع ليصلا إلى الطلاق.
أما زوجته الرابعة فهي من استمرت معه حتى وفاته وهي ابنة الكاتب المسرحي “أوجين أونيل” الذي رفض هذا الزواج في البداية خوفاً من تكرر سيناريو زوجاته السابقات، لكنها أصرت عليها إذ كانت حينها تبلغ من العمر 18 سنة أما تشابلن فكان يبلغ 54 من عمره، لم تكن توقعات الأب في مكانها فقد بقيت هذه الفتاة زوجة وفية وأنجبت لتشارلي ثمانية أطفال وعلق تشارلي لاحقاً ” إنه لأمر رائع أن يكون لك أولاد، إنهم يردونك إلى الشباب”
تشارلي شابلن في أوروبا
عام 1953 انتقل للعيش في سويسرا بعقار مساحته 14 هكتار بعد خلافاته مع أمريكا ولم يرجع إليها وعرض منزله و الأستوديو الخاص به للبيع، وتخلى عن تصريح عودته كما تخلت زوجتهه عن جنسيتها الأمريكية وأرسل زوجته لتحل له الأمور العالقة هناك وبعدها قطع علاقاته نهائيا بهم، ركز تشارلي في العقدين الأخيرين من حياته على إعادة تحرير وتسجيل أفلامه لإعادة إصدارها، وبعدها قام تشارلي تشابلن بإصدار مذكراته والذي يحتوي على 500 صفحة مركزا على حياته الشخصية وأصبح الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم رغم ما أخذه من انتقادات بسبب عدم تركيزه على مشواره الفني.
تشارلي تشابلن يودع العالم بعيد الميلاد
بحلول عام 1977 بدأت صحته تتدهور وأصبح بحاجة ماسة للعناية ببلوغه 88 سنة، وفي الرابع والعشرين من ديسمبر كان تشارلي تشابلن مع أصدقائه وعائلته تركهم ليأوي إلى فراشه واكتشفوا في صبيحة الميلاد أنه قد غادر الحياة، شُيع تشابلن بحضور جماهيري ودبلوماسي ورئاسي يضم أكثر من عشرين رئيس دولة بجنازة كبيرة حاشدة بأكثر من ثلاثين مليون شخص حاملين صوره وهم يبكون من أضحكهم طوال حياته.
وفي 1 مارس 1979 تمت سرقة جثة تشارلي تشابلن من قبل شابين بلغاريين من المهاجرين وكان هدفهم الابتزاز والحصول على الأموال من زوجته وبعد شهرين تم القبض عليهما والعثور على تابوت تشارلي شابلن في حقل، وأعيد دفن التابوت في مقبرة محاطة بخرسانة مسلحة على بعد ست أقدام.
تشارلي تشابلن الأب الروحي لـ “الكوميديا الصامتة”
غادر تشارلي تشابلن بعد ثروة فنية وثقافية كبيرة تجاوزت الثمانين فيلماً، رسم من خلالها طريقاً خاصاً وترك في قلوب الناس بصمةً فريدةً من نوعها بحركات وإيماءات، أرسل تشارلي تشابلن رسائل قوية سياسية وإجتماعية ليصبح أيقونة لـ الفن والكوميديا وأسطورة على مر السنوات باللون الأبيض والأسود.
تعليقات
إرسال تعليق